فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} ظاهر: ما، العموم، والمعنى: أن الحالتين من الإخفاء والإبداء بالنسبة إليه تعالى سواء، وإنما يتصف بكونه إبداء وإخفاء بالنسبة إلى المخلوقين لا إليه تعالى، لأن علمه ليس ناشئًا عن وجود الأشياء، بل هو سابق بعلم الأشياء قبل الإيجاد، وبعد الإيجاد، وبعد الإعدام.
بخلاف علم المخلوق، فإنه لا يعلم الشيء إلاَّ بعد إيجاده، فعلمه محدث. اهـ.

.قال الفخر:

يروى عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ وناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه، وإن له الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل سمعنا وعصينا قولوا: سمعنا وأطعنا»، فقالوا سمعنا وأطعنا، واشتد ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولًا فأنزل الله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فنسخت هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم مالم يعملوا أو يتكلموا به».
واعلم أن محل البحث في هذه الآية أن قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} يتناول حديث النفس، والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب، ولا يتمكن من دفعها، فالمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق، والعلماء أجابوا عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين، فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أمورًا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس، فالقسم الأول: يكون مؤاخذًا به، والثاني: لا يكون مؤاخذًا به، ألا ترى إلى قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أيمانكم ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وقال في آخر هذه السورة {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] وقال: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة في الذين آمَنُوا} [النور: 19] هذا هو الجواب المعتمد.
والوجه الثاني: أن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل، فهو في محل العفو وقوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} فالمراد منه أنه يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهرًا وإما على سبيل الخفية وأما ما وجد في القلب من العزائم والإرادات ولم يتصل بالعمل فكل ذلك في محل العفو وهذا الجواب ضعيف، لأن أكثر المؤاخذات إنما تكون بأفعال القلوب ألا ترى أن اعتقاد الكفر والبدع ليس إلا من أعمال القلوب: وأعظم أنواع العقاب مرتب عليه، وأيضًا فأفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب لا يترتب عليها عقاب كأفعال النائم والساهي فثبت ضعف هذا الجواب.
والوجه الثالث في الجواب: أن الله تعالى يؤاخذه بها لكن مؤاخذتها هي الغموم والهموم في الدنيا، روى الضحاك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه بغم يبتليه به في الدنيا أو حزن أو أذى، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب عليه، وروت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه.
فإن قيل: المؤاخذة كيف تحصل في الدنيا مع قوله تعالى: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17].
قلنا: هذا خاص فيكون مقدمًا على ذلك العام.
الوجه الرابع في الجواب: أنه تعالى قال: {يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} ولم يقل: يؤاخذكم به الله وقد ذكرنا في معنى كونه حسيبًا ومحاسبًا وجوهًا كثيرة، وذكرنا أن من جملة تفاسيره كونه تعالى عالمًا بها، فرجع معنى هذه الآية إلى كونه تعالى عالمًا بكل ما في الضمائر والسرائر، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الله تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم، فالمؤمن يخبره ثم يعفو عنه، وأهل الذنوب يخبرهم بما أخفوا من التكذيب والذنب.
الوجه الخامس في الجواب: أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} فيكون الغفران نصيبًا لمن كان كارهًا لورود تلك الخواطر، والعذاب يكون نصيبًا لمن يكون مصرًا على تلك الخواطر مستحسنًا لها.
الوجه السادس: قال بعضهم: المراد بهذه الآية كتمان الشهادة، وهو ضعيف، لأن اللفظ عام، وإن كان واراه عقيب تلك القضية لا يلزم قصره عليه.
الوجه السابع في الجواب: ما روينا عن بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله: {لا يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وهذا أيضًا ضعيف لوجوه:
أحدها: أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا: أنهم كانوا قبل هذا النسخ مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها، وذلك باطل، لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة، ولذلك قال عليه السلام: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» والثاني: أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر، وقد بينا أن الآية لا تدل على ذلك والثالث: أن نسخ الخبر لا يجوز إنما الجائز هو نسخ الأوامر والنواهي.
واعلم أن للناس اختلافًا في أن الخبر هل ينسخ أم لا؟ وقد ذكرناه في أصول الفقه، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

اختلف الناس في معنى قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} على أقوال خمسة:
الأوّل أنها منسوخةٌ؛ قاله ابن عباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سِيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عُبَيْدَة وجماعة من الصحابة والتابعين، وأنه بقي هذا التكليف حَوْلًا حتى أنزل الله الفرج بقوله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
وهو قول ابن مسعود وعائشة وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وغيرهم وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} قال: دخل قلوبَهم منها شيءٌ لم يدخل قلوبَهم مِن شيء؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قولوا سمعنا وأطعنا وسلّمنا» قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: قد فعلت {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ على الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: قد فعلت {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَطَاقَةَ لَنَا بِهِ واعْفُ عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا على الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: قد فعلت. في رواية فلما فعلوا ذلك نسخها الله ثم أنزل تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وسيأتي.
الثاني قال ابن عباس وعِكرمة والشعبي ومجاهد: إنها مُحكْمَةٌ مخصوصة، وهي في معنى الشهادة التي نهى عن كَتْمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب.
الثالث أن الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين؛ وقاله مجاهد أيضًا.
الرابع أنها محكمة عامّة غير منسوخة، والله مُحاسِب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه؛ فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق؛ ذكره الطبريّ عن قوم، وأدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا.
روي عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: لم تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول: {إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم} فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب؛ فذلك قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} وهو قوله عزّ وجلّ: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] من الشك والنفاق.
وقال الضّحاك: يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره ليعلم أنه لم يخف عليه.
وفي الخبر: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة هذا يومٌ تبلى فيه السرائر وتخرج الضمائر وأن كُتَّابي لم يكتبوا إلاَّ ما ظهر من أعمالكم وأنا المطّلع على ما لم يطلعوا عليه ولم يُخْبُروه ولا كتبوه فأنا أخبركم بذلك وأُحاسبكم عليه فأغفر لمن أشاء وأعذب من أشاء» فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، وهذا أصح ما في الباب، يدل عليه حديث النجوى على ما يأتي بيانه، لا يُقال: فقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمّتِي عما حدّثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به» فإنا نقول: ذلك محمول على أحكام الدنيا؛ مثل الطلاق والعتاق والبيع التي لا يلزمه حكمها ما لم يتكلم به، والذي ذكر في الآية فيما يؤاخذ العبد به بينه وبين الله تعالى في الآخرة. وقال الحسن: الآية محكمة ليست بمنسوخة.
قال الطبريّ: وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس؛ إلاَّ أنهم قالوا: إن العذاب الذي يكون جزاء لما خَطَر في النفوس وصحِبه الفكر إنما هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها.
ثم أسند عن عائشة نحو هذا المعنى؛ وهو القول الخامس: ورجح الطبريّ أن الآية محكمة غير منسوخة: قال ابن عطية: وهذا هو الصواب، وذلك أن قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} معناه مما هو في وُسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقَد والفكر؛ فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشْفَق الصحابة والنبيّ صلى الله عليه وسلم، فبيّن الله لهم ما أراد بالآية الأخرى، وخصصها ونص على حكمه أنه لا يكلّف نفسًا إلاَّ وسعها، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هي أمر غالب وليست مما يكتسب؛ فكان في هذا البيان فرَجُهم وكشف كُرَبهم، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها: ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ؛ فإن ذهب ذاهب إلى تقدير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم: «قولوا سمعنا وأطعنا» يجيء منه الأمر بأن يثبتوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران.
فإذا قُرّر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه، وتشبه الآية حينئذ قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 65] فهذا لفظه الخبر ولكن معناه التَزِموا هذا واثْبتُوا عليه واصْبِروا بحَسَبِه، ثم نسخ بعد ذلك.
وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين.
قال ابن عطية: وهذه الآية في البقرة أشبه شيء بها.
وقيل: في الكلام إضمار وتقييد، تقديره يحاسبكم به الله إن شاء؛ وعلى هذا فلا نسخ.
وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في الآية وأشبه بالظاهر قول ابن عباس: إنها عامّة، ثم أدخل حديث ابن عمر في النّجْوى، أخرجه البخاريّ ومسلم وغيرهما، واللفظ لمسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُدْنَى المؤمن يوم القيامة من ربِّه جلّ وعزّ حتى يضع عليه كنَفَه فيُقَرِّرُه بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أيّ ربِّ أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيُعْطى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله» وقد قيل: إنها نزلت في الذين يتوَلّون الكافرين من المؤمنين، أي وإن تعلنوا ما في أنفسكم أيها المؤمنون من ولاية الكفار أو تسروها يحاسبكم به الله؛ قاله الواقديّ ومقاتل.
واستدلوا بقوله تعالى في آل عمران {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} من ولاية الكفار {يَعْلَمْهُ الله} [آل عمران: 29] يدلّ عليه ما قبله من قوله: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين} [آل عمران: 28].
قلت: وهذا فيه بعدٌ؛ لأن سياق الآية لا يقتضيه، وإنما ذلك بيّن في آل عمران والله أعلم.
وقد قال سفيان بن عيينة: بلغني أن الأنبياء عليهم السَّلام كانوا يأتون قومهم بهذه الآية: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله}. اهـ.